سورة الزمر - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


{قُلْ يا عِبَادِى الذين ءامَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ} أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتذكير المُؤمنين وحملِهم على التَّقوى والطَّاعة إثرَ تخصيص التَّذكُّر بأولي الألباب إيذاناً بأنَّهم هم كما سيصرِّح به أي قُل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريفٌ لهم بإضافتهم إلي ضمير الجلالةِ ومزيدُ اعتناءٍ بشأن المأمور به فإنَّ نقلَ عينِ أمرِ الله أدخلُ في إيجابِ الإمتثالِ به. وقولُه تعالى: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} تعليلٌ للأمر أو لوجوبِ الامتثال به وإيراد الإحسان في حيِّز الصِّلةِ التَّقوى للإيذانِ بأنَّه من باب الإحسان وأنَّهما مُتلازمانِ وكذا الصَّبرُ كما مرَّ في قوله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} وقوله تعالى {فِى هذه الدنيا} متعلِّقٌ بأحسنُوا أي عملوا الأعمالَ الحسنةَ في هذه الدُّنيا على وجه الإخلاصِ وهو الذي عبّر عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حينَ سُئل عن الإحسانِ بقوله عليه السَّلامُ: «أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكن تراهُ فإنَّه يراكَ» {حَسَنَةٌ} أي حسنة عظيمةٌ لا يُكْتَنَه كُنْهُها وهي الجنَّةُ. وقيل: هو متعلِّقٌ بحسنة على أنَّه بيان لمكانها أو حالٌ من ضميرها في الظَّرفِ فالمرادُ بها حينئذٍ الصِّحَّةُ والعافيةُ {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} فمن تعسَّر عليه التَّوفرُ على التَّقوى والإحسانِ في وطنِه فليهاجر إلى حيثُ يتمكَّن فيه من ذلك كما هو سُنَّة الأنبياءِ والصَّالحينَ فإنه لا عُذرَ له في التَّفريطِ أصلاً وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون} إلخ ترغيب في التَّقوى المأمور بها، وإيثارُ الصَّابرين على المتَّقين للإيذانِ بأنَّهم حائزونَ لفضيلة الصَّبر كحيازتهم لفضيلةِ الإحسانِ لما أشير إليه من استلزام التَّقوى لهما مع ما فيه من زياذةِ حثَ على المصابرةِ والمجاهدةِ في تحمُّل مشاقَّ المهاجرة ومتاعبها أي إنَّما يوفَّى الذين صبرُوا على دينِهم وحافظُوا على حدودِه ولم يُفرِّطُوا في مُراعاةِ حقوقه لما اعتراهم في ذلك من فُنونِ الآلامِ والبَلاَيا التي من جُملتها مهاجرةُ الأهلِ ومفارقةُ الأوطانِ {أَجْرَهُمْ} بمقابلة ما كابدُوا من الصَّبرِ {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بحيث لا يُحصى ولا يُحصر. عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: لا يَهتدِي إليه حسابُ الحُسَّاب، ولا يُعرف. وفي الحديثِ «أنَّه تنصبُ الموازينُ يوم القيامة لأهلِ الصَّلاة والصَّدقة والحَجِّ فيُؤتَون بها أجورَهم ولا تنُصب لأهل البلاءِ بل يُنصبُّ عليهم الأجرُ صَّباً حتَّى يتمنَّى أهلُ العافيةِ في الدُّنيا أنَّ أجسادَهم تُقرضُ بالمقاريضِ مَّما يذهبُ به أهلُ البلاءِ من الفضلِ»
{قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} أي من كلِّ ما ينافيهِ من الشِّركِ والرِّياءِ وغير ذلك أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ببيانِ ما أُمر به نفسه من الإخلاصِ في عبادة الله الذي هو عبارةٌ عمَّا أُمر به المؤمنون من التَّقوى مبالغةً في حثِّهم على الإتيان بما كُلِّفوه وتمهيداً لما يعقُبه مَّما خُوطب به المشركونَ.
{وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} أي وأُمرت بذلك لأجلِ أنْ أكونَ مقدَّمهم في الدُّنيا والآخرةِ لأنَّ إحرازَ قَصَب السَّبقِ في الدِّين بالإخلاصِ فيه. والعطفُ لمغايرةِ الثَّاني الأوَّلَ بتقييده بالعلَّةِ والإشعارِ بأنَّ العبادةَ المذكورةَ كما تقتضِي الأمرَ بها لذاتِها تقتضيهِ لما يلزمُها من السَّبقِ في الدِّينِ ويجوزُ أنْ تُجعلَ اللاَّمُ مزيدةً كما في أردتُ لأنْ أقومَ بدليلِ قوله تعالى: {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} فالمعنى وأُمرت أنْ أكونَ أوَّلَ مَن أسلمَ من أهلِ زمانيِ أو مِن قومي أو أكون أولَ من دَعا غيرَهُ إلى ما دعا إليه نفسَه.


{قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى} بترك الإخلاصِ والميل إلى ما أنتمُ عليه من الشِّركِ {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يومُ القيامةِ وصفَ بالعظمةِ لعظمةِ ما فيه من الدَّواهي والأهوالِ {قُلِ الله أَعْبُدُ} لا غيرَه لا استقلالاً ولا اشتراكاً {مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى} من كلِّ شَوْبٍ. أُمر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلاً ببيان كونِه مأموراً بعبادةِ الله تعالى وخلاصِ الدِّينِ له ثمَّ بالإخبارِ بخوفِه من العذابِ على تقديرِ العصيانِ ثمَّ بالإخبارِ بامتثاله بالأمرِ على أبلغِ وجِه وآكدِه إظهاراً لتصلُّبه في الدِّينِ وحسماً لأطماعِهم الفارغةِ وتمهيداً لتهديدِهم بقوله تعالى {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ} أنْ تعبدُوه {مِن دُونِهِ} تعالى وفيه من الدِّلالةِ على شدَّةِ الغضبِ عليهم ما لا يخفي كأنَّهم لمَّا لم ينتهُوا عما نُهوا عنه أُمروا به كي يحل بهم العقابُ.
{قُلْ إِنَّ الخاسرين} أي الكاملينَ في الخُسران الذي هو عبارةٌ عن إضاعةِ ما يُهمه وإتلافِ ما لا بدَّ منه {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} باختيارِهم الكفرَ لهما أي أضاعُوهما وأتلفوهُما {يَوْمُ القيامة} حين يدخُلون النَّارِ حيث عرَّضوهما للعذابِ السَّرمديِّ وأوقعُوهما في هَلَكةٍ لا هلكةَ وراءها. وقيل: خسِروا أهليهم لأنَّهم إنْ كانُوا من أهلِ النَّار فقد خسروهم كما خسِروا أنفسَهم إنَ كانُوا من أهلِ الجنَّةَ فقد ذهبُوا عنهم ذهاباً لا إيابَ بعدَهُ. وفيه أنَّ المحذورَ ذهابُ ما لو آبَ لانتفع به الخاسرُ وذلك غيرُ متصوَّرٍ في الشِّقِّ الأخيرِ. وقيل: خسِروهم لأنَّهم لم يدخلُوا الذين لهم أهلٌ في الجنَّةِ وخَسِروا أهليهم الذين كانِوا يتمتَّعون بهم لو آمنُوا، وأيَّا ما كان فليسَ المرادُ مجرد تعريفِ الكاملينَ في الخُسران بما ذُكر بل بيانَ أنَّهم هم، إمَّا بجعلِ الموصولِ عبارةً عنهم أو عمَّا هم مُندرجون فيه اندراجاً أوليَّاً. وما في قوله تعالى {أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} من استئنافِ الجملةِ وتصديرِها بحرفِ التَّنبيه والإشارةِ بذلك إلى بُعد منزلةِ المُشارِ إليه في الشَّرِّ. وتوسيطُ ضمير الفصل وتعريفُ الخسرانِ ووصفُه بالمبينِ من الدِّلالةِ على كمالِ هوله وفظاعتِه وأنَّه لا خُسران وراءه ما لا يَخفْى. وقوله تعالى {لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار} إلخ نوع بيانٍ لخسرانِهم بعد تهويلِه بطريقِ الإيهامِ على أنَّ لهم خبرٌ لظُللٌ. ومن فوقِهم متعلِّقٌ بمحذوفٍ قيل: هو حالٌ من ظُللٌ. والأظهرُ أنَّه حالٌ من الضَّميرِ في الظَّرفِ المُقدَّمِ ومن النَّارِ صفةٌ لظللٌ أي لهم كائنةٌ من فوقهم ظللٌ كثيرةٌ متراكبةٌ بعضُها فوق بعضِ كائنةٌ من النَّارِ {وَمِن تَحْتِهِمْ} أيضاً {ظُلَلٌ} أي أطباقٌ كثيرةٌ بعضُها تحتَ بعضٍ ظللٌ لآخرينَ بل لهم أيضاً عد تردِّيهم في دَرَكاتِها {ذلك} العذابُ الفظيعُ هو الذي {يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} ويُحذِّرهم إيَّاه بآياتِ الوعيدِ ليجتنبُوا ما يُوقعهم فيه {يَا عِبَادِى فاتقون} ولا تتعرَّضُوا لَما يُوجبُ سَخَطي. وهذه عظة من الله تعالى بالغةٌ منطويةٌ على غايةِ اللُّطفِ والمرحمةِ وقرئ: {يا عبادِي}.


{والذين اجتنبوا الطاغوت} أي البالغَ أقصى غيةَ الطُّغيانِ، فَعَلوتٌ منه بتقديم اللاَّمِ على العينِ بُني للمبالغةِ في المصدرِ كالرَّحموتِ والعظَمُوتِ. ثم وُصف به للمبالغةِ في النَّعتِ. والمرادُ به هو الشَّيطانُ {أَن يَعْبُدُوهَا} بدلُ الاشتمالِ منه فإنَّ عبادةَ غيرَ الله تعالى عبادةٌ للشَّيطانِ إذِ هُو الآمرُ بها والمُزيِّنُ لها. {وَأَنَابُواْ إِلَى الله} وأقبلُوا إليه مُعرضين عمَّا إقبالاً كلِّياً.
{لَهُمُ البشرى} بالثَّوابِ على ألسنةِ الرُّسلِ أو الملائكةِ عند حضورِ الموتِ وحين يُحشرون وبعد ذلك {فَبَشّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} هم الموصُوفون بالاجتنابِ والإنابةِ بأعيانهم لكنْ وُضع موضعَ ضميرِهم الظَّاهرُ تشريفاً لهم بالإضافةِ ودلالةً على أنَّ مدارَ اتصِّافِهم بالوصفينِ الجليلينِ كونُهم نُقَّاداً في الدَّينِ يميِّزون الحقَّ من الباطلَ ويؤُثرون الأفضلَ فالأفضلَ {أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتِّصافهم بما ذُكر من النَّعوتِ الجليلةِ، وما فيه من مَعْنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ رُتبتهم وبُعدِ منزلتِهم في الفضلِ. ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ خبرُه ما بعده من الموصولِ أي أولئك المنعوتُون بالمحاسنِ الجمليةِ {الذين هَدَاهُمُ الله} للدِّين الحقِّ {وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الالباب} أي هم أصحابُ العقولِ السَّلميةِ عن معارضة الوهمِ ومنازعةِ الهَوَى المستحقُّون للهدايةِ لا غيرهم، وفيه دلالةٌ على أنَّ الهدايةَ تحصلُ بفعل الله تعالى وقبول النَّفسِ لها {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النار} بيانٌ لأحوال أضَّدادِ المذكورينَ على طريقة الإجمالِ وتسجيلٌ عليهم بحرمانِ الهداية وهم عَبَدةُ الطَّاغوتَ ومتَّبعُو خطواتها كما يُلوحُ به التَّعبيرُ عنهم بمن حقَّ عليه كلمة العذاب فإنَّ المرادَ بها قوله تعالى لإبليسَ: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وقوله تعالى: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} وأصلُ الكلامِ أمن حقَّ عليه كلمةُ العذاب فأنتَ تنقذه على أنَّها شرطيةٌ دخل عليها الهمزةُ لإنكارِ مضمونها ثم الفاءُ لعطفها على جملةٍ مستتبعة لها مقدَّرة بعد الهمزةِ ليتعلَّق الإنكارُ والنَّفيُ بمضمونيهما معاً أي أأنتَ مالكُ أمرِ النَّاسِ فمن حقَّ عليه كلمةُ العذابِ فأنت تنقذه ثم كُررتْ الهمزةُ في الجزاءِ لتأكيدِ الإنكارِ وتذكيرِه لمَّا طال الكلامُ ثم وضِع موضعَ الضَّميرِ مَن في النَّارِ لمزيد تشديدِ الإنكارِ والاستبعاد والتَّنبيه على أنَّ المحكومَ عليه بالعذابِ بمنزلة الواقعِ في النَّارِ وأنَّ اجتهادَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فى دُعائهم إلى الإيمانِ سعيٌ في إنقاذِهم من النَّارِ ويجوزُ أن يكونَ الجزاءُ محذوفاً. وقوله تعالى أفأنتَ إلخ جملة مستقلَّةٌ مسوقة لتقريرِ مضمون الجملة السَّابقةِ وتعيين ما حُذف منها وتشديدِ الإنكارِ بتنزيل من استحقَّ العذابَ منزلةَ من دخل النَّارَ وتصوير الاجتهاد في دُعائه إلى الإيمان بصورةِ الإنقاذِ من النَّارِ كأنَّه قيل أوَّلاً: أفمن حقَّ عليه العذابُ فأنتَ تخلِّصه منه ثم شُدِّد النَّكيرُ فقيل أفأنتَ تنقذُ من في النَّارِ وفيه تلويحٌ بأنَّه تعالى هو الذي يقدرُ على الإنفاذِ لا غيرُه وحيثُ كان المرادُ بمن في النَّارِ الذين قيل في حقِّهم: {لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} استدركَ منهم بقوله تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8